يستعرض هذا الموضوع تاريخ العراق القديم ما قبل التاريخ، قبل ان يبدأ في اي بلد اخر في العالم، وبفضل اختراع الكتابة برزت اهمية الكشوف التاريخية والأثرية في توضيح صورة وحجم حضارة السومريين في تلك الحقبة الزمنية السحيقة والتي ساهمت في قلب المفاهيم التي صاغها التوراتيون عن عالم المشرق العربي القديم. ولم يعد بعد فردوس التورات كما تحدثوا عنه ولا جنات عدن كما تصوروها، انما كان هناك الأنسان الرافدي يتحدى التاريخ، يمارس اقدم مجهود بشري اجتماعي سياسي، فقد شق الأرض بذراعه وبذر الحب فيها بسواعده لأول مرة في التاريخ وسجل نتاج عقله ومشاعره وعلمه وفنه. فغدت بلاد سومر موطن الثقافات البشرية الأولى ومنها نمت بذرة الحضارة وتطورت وانتشرت الى بلدان الشرق العربي القديم حول الحوض المتوسط
عندما نلقي الضوء على تاريخ بلاد الرافدين وعلى العناصر المكونة لهذا التاريخ والتي تمثلت بالأقوام العربية القديمة يتبين لنا كيف انها استطاعت بقوة حضارتها وديناميتها من احتواء المتناقضات، والحفاظ على تفوقها السياسي والعسكري والثقافي واللغوي طيلة اربعة الاف عام الى ان اخذت تتراجع امام القوى الجديدة منذ دخول كورش الساساني الى بابل عام 539 ق م ودخول الأسكندر المقدوني بعده بقرنين من الزمن.
تشيرالدلائل الأثرية والتاريخية الى تعدد اصول السكان في بلاد الرافدين.فقد تألفت مجتمعات العراق القديم من عناصر اصيلة وجدت في البلاد قبل ظهور عصر الكتابة. فالمناطق الرعوية والزراعية جذبت القبائل من البوادي العربية المجاورة ومن المرتفعات الشمالية والشرقية. ولم يختلف التركيب السكاني للبلاد من حيث اصول الناس وصفاتهم العرقية وحسب بل تميزوا من حيث طراز حياتهم الأجتماعية والأقتصادية. وفي عصور ما قبل التاريخ لم يكن بالإمكان معرفة اسماء الشعوب التي سكنت البلاد قبل اختراع الكتابة (في اواخر الألف الرابع ق م) لكن بعد انتشارها اصبح بالإمكان معرفة لغاتهم على الأقل..
لقد تمكن الأنسان في العصر الحاضر من التوسع في التنقيبات الأثرية وتحسين طرق تحليلها لإستنطاق الأثار المكتشفة وفهم دلالاتها بصورة افضل، بعدما استعمل انماطا جديدة لدراسة حياة الأنسان ترجع لمرحلة ما قبل التاريخ معتمدا على الوثائق التي ربما تصل في القدم الى اكثر من نصف مليون سنة، منها بقايا عظام الإنسان والأدوات والرسوم والصخور المنحوتة.
وقد بدأت هذه المرحلة في بلاد الرافدين قبل ان تبدأ في اي بلد اخر في العالم بإختراع الكتابة التصويرية التي تطورت الى الكتابة المسمارية فيما بعد. ومن هنا برزت اهمية الكشوف الأثرية في توضيح صورة حضارة بلاد الرافدين في تلك العصور القديمة (1)
يطلق الأنكلو- سكسون على المنطقة الكائنة في اسيا الغربية و التي تمتد من سواحل بحر قزوين شرقا الى التخوم الشرقية لليبيا غربا، بالشرق الأدنى وهو ما نطلق نحن عليه مصطلح الشرق الأوسط الذي يضم كذلك وادي الرافدين ووادي النيل وما بينهما سوريا القديمة وفلسطين والذي اطلق عليها المؤرخ برستد مصطلح الهلال الخصيب. كما سموا بلاد الرافدين بميزوبوتاميا.وقد قامت بين هذه الأقطار منذ فجر التاريخ صلات حضارية يمكن ان ترقى الى العصور الحجرية..
اما بخصوص اكتشاف حضارة سومر فقد ساد الأعتقاد قديما ان الدولة الأشورية هي اقدم حضارات العراق القديم على الأطلاق.
لكن عندما اكتشف القنصل الفرنسي في البصرة – دو سارزك – عام 1877 في موقع تلو \ لكش في جنوب العراق بعض التماثيل التي كانت لا تشبه مثيلاتها الأشورية وكذالك كانت لغة الألواح المكتشفة لا تشبه الخط الأشوري انتبه انه قد اكتشف حضارة جديدة ليس لها علاقة بالحضارة السامية. وقد اثار اكتشافه هذا موجة من الجدال الحاد بين الباحثين حول قدم تاريخ الحضارات.في وادي الرافدين.
وفي تلك الفترة اعلن العالم – جول اوبر- ان لغة الأثار المكتشفة هي لشعب مجهول قائلا – أفليس من المرجح ان يكون السومريون هم اقدم من الأشوريين وهم الذين اخترعوا الكتابة المسمارية ؟.
بعدها بفترة فاجأ – سارزك – العالم بكشوفاته الباهرة في تلو \ لكش، احدى العواصم السومرية. بعد ان اتى بالشاهد المادي لأثبات الحقيقة التاريخية في وجود الحضارة السومرية. وقد نقلت بعض تماثيل امراء سومر المكتشفة مثل غوديا و اورنانشه و اياناتوم و انتيمينا و اوروكاجينا الى واجهات المتاحف العالمية، يعود تاريخها الى الألف الثالث ق م. اي بعد ان كانت مطمورة في اعماق الأرض اكثر من خمسةالاف عام.
تعد وثائق موقع اور اقدم الوثائق السومرية المكتشفة يعود تاريخها الى 3000 سنة ق م كما يقدر مجموع عدد هذه الوثائق في بلاد الرافدين وفي البلدان المجاورة بحوالي نصف مليون وثيقة التي اعطت الصورة الواضحة لحضارة السومريين بعد ان تمكن الباحثون من فك رموز الكتابة المسمارية والإطلاع على محتوياتها بيسر.
تنقسم هذه الوثائق عموما الى مجموعتين:
تحتوي الأولى على التراث الثقافي الفكري الذي يشمل الأعمال الأدبية والملاحم والأمثال والحكم والنصوص الدينية.
والثانية تشمل ملاحظات حسابية وتقارير ادارية.
لقد اثار هذا الأكتشاف العظيم اهتمام الباحثين في كل ارجاء العالم كان الألمان في طليعتهم، وقد اغنى الباحث – جنسن – الأدب العالمي بإصداره ملحمة كلكامش باللغة الألمانية عام 1906.
اما اللغة السومرية فإنها تعد من اقدم لغات بلاد الرافدين وربما بلدان المنطقة بأسرها وهي لغة مركبة تركيبا مزجيا وفيها تلصق كلمة بأخرى او بأكثر لتكون معنى جديد وهي لغة لا يمكن تصنيفها ضمن اية اسرة لغوية معروفة، فهي لا تشبه غيرها من لغات الشرق العربي القديم كالكنعانية والأرامية والعربية والعبرية. (2)
وقد تمكن – كارل بتسولد –من وضع معجم للغة السومرية محفوظ حاليا في المتحف البريطاني في لندن.
لقد تمكنت بعثة امريكية بإدارة اللغوي – بيجس – من العثور على نصوص ادبية واقتصادية عام 1965 في موقع ابو صلابيخ و لكش واور وبسماية وجرسو وجوخة تعود الى الألف الثالث ق م (3).
كانت بوادي جزيرة العرب الموطن الأصلي للقبائل العربية التي بدأت تتدفق منها على بلاد الرافدين منذ الألف الرابع ق م على شكل دفعات متواصلة ومتلاحقة بصورة سلمية او بغارات متقطعة، فكانت موجات الأموريين في اواخر الألف الثالث ق م والأراميين في اواخر الألف الثاني ق م والعرب في اواخر الألف الأول قبل الميلاد.
لم تكن لهذه الشعوب وهي في مرحلة البداوة لغات مكتوبة، لكنها بعد استقرارها واندماجها في الحياة المدنية، ابتكر كل شعب لنفسه لغة تفاهم. وهذه اللغات كانت الدليل الواضح على هوية هذه الشعوب وعلى الرابطة التي كانت قائمة بينها. واصبح التمييز بين الشعوب التي سكنت في العراق القديم ممكنا: فالسومريون كانت لغتهم سومرية. و الساميون كانت لغتهم احدى اللغات السامية و الذين فازوا في الحفاظ على كيانهم في المجتمع السومري من الذوبان، حتى غدا ان بعض ملوك كيش كانوا يحملون اسماء سامية كما ان مجمع الألهة كان يضم عددا من الأسماء السامية ايضا. الى جانب وجود فيض من المفردات السامية ذات صلة قربى لغوية باللغات العربية القديمة وهي شاهدة على عراقة الوجود العربي ابان فجر التاريخ الرافدي _ ككلمة سلام في العربية والتي كانت تقابلها شلام في الأكدية وسيليم في السومرية.
وطبقا لهذه الثوابت يمكن القول ان الساميين قد هاجروا من الجزيرة العربية الى بلاد الرافدين قبل مجيئ السومريين بزمن طويل. ومهما يكن الأمر فالإخصاب الحضاري قد اوجد مدنية راقية في بلاد سومر، كان العنصر السامي فيها هو الغالب.
وعندما عثر المنقبون على اثار تاريخية مهمة في كل من الوركاء على نهر الفرات في الجنوب وفي نينوى في الشمال وفي جمرة نصر قرب المسيب في الوسط كان تاريخها يعود الى 3200 ق م. انذاك توثق الباحثون ان بلاد الرافدين كان حقا المهد الحاضن لحضارات مزدهرة (4).
لقد بدأ العصر السومري القديم في الألف الرابع، ولم تكن لغته لغة شاملة بل كانت هناك لهجات خاصة لبعض فئات المجتمع، كلغة الكهان ولغة رعاة الغنم. واما لغة النساء فكانت تدعى (ايمي _ سال) وتعني اللسان السليط وتلفظ (لشان سليطي).
والى جانب اللغة السومرية كانت الأكدية التي تأثرت بالسومرية وبنظامها المسماري وانتشرت بتأثير الكيانات الرافدية كأكد وبابل واشور، بينما تراجعت السومرية بعد تراجعها السياسي واصبحت لغة محدودة الإستعمال.
كانت حضارة بلدان المنطقة متاثرة بعضها بالبعض الأخر منذ الاف السنين بعاملين اساسيين:
الأول العلاقات التجارية
والثاني اللغة العربية لغة القرأن الكريم التي انتشرت بعد بزوغ فجر الأسلام العظيم.
وكان العامل المساعد لهذا الأنتشار الجليل هو تقارب اوجه الشبه بين اللهجات العربية في بنيتها الكلامية وقواعدها النحوية فالفعل يسبق الفاعل والصفة تتبع الموصوف (5).
يدعو الباحث الفرنسي – جورج كانتنو – شعوب الشرق الأدنى القديم التي سكنت مناطق اسية الغربية منذ اقدم العصور بإسم (الأسيانيين) اي سكان غربي قارة اسيا الأوليين ومنهم السومريون.
فالمجتمع السومري هو اقدم مجتمع رافدي كان له اسم ولغته السومرية هي اقدم لغة معروفة في تاريخ الإنسانية. ويفترض ان تكون العناصر المكونة للمجتمع السومري قد تواجدت قبل اختراع الكتابة بزمن طويل، ولكننا لا نعرف شيئا عن المرحلة التي سبقتها، سوى ما تركه سكان عصر العبيد – بضم العين - من اثار مادية. تشكل مسألة اصل السومريين مشكلة مستعصية، فلا نعرف، من اين جاؤوا ؟ ومتى جاؤوا ؟....، ولذلك تبقى المسئلة معلقة. فأصل السومريين مجهول، فلا نعلم الى اي عرق ينتسبون ومن اي اصل ينحدرون. فلغتهم ليست لغة سامية، كما انه ليس لكلمة سومر اي مدلول عرقي.
لا يمكن الكلام عن فجر الحضارات في العراق القديم دون ملاحظة ماكان يجري في سائر بلدان المشرق العربي القديم الذي كانت ارضه وحدة مشتركة. والمعروف من الدراسات المستفيضة ان التواصل الحضاري بين وادي الرافدين وبقية بلدان الوطن العربي كان موجودا منذ اقدم العصور. وتاريخ هذا التواصل كان ما بين العصر الحجري الحديث ومطلع العصور الكلاسيكية.
ومن جهة اخرى طرحت نتائج التنقيبات الأثرية الحديثة التي اجريت في سورية العربية وتحديدا، في حوضي الفرات والخابور تساؤلات عن سكان المستوطنات الأولى التي استعملت اشكالا من الكتابة التصويرية المبكرة مثلما كانت موجودة عند السومريين.. وبعد هذه المقدمات يمكن القول ان السومريين هم محصلة تطور محلي للسكان في جنوب بلاد الرافدين، فقد غاب كل اثر عن اخبارهم قبل مرحلة استقرارهم..
تختلف الصفات الخلقية للسومريين مقارنة بالساميين فهم لا يشبهون شعب العراق ولا بقية الشعوب العربية، فالسومريون قصار القامة ذوو بنية قوية، انوفهم مرتفعة وعريضة لا تشبه انوف الساميين الدقيقة، اما رقبة السومري فقصيرة، تحمل هامة كبيرة، وكان السومريون يتدثرون بالملابس الصوفية، مما يستدل انهم اتوا من مناطق جبلية باردة
يذكر العالم – ل وولي – الذي نقب في موقع اور انه وصل في حفرياته الى طبقة كثيفة من الطين خالية من اثار الحضارة، قد تكون نتيجة فيضانات هائلة غمرت هذه البقاع زمن الطوفان، ولربما جاء السومريون بعد اعقاب حضارة اندثرت. كانت مناطق تل العبيد واريدو اهم مراكزها.
لقد اعلن العالم الألماني شلوتزر عام 1781 ان الشعوب التي شغلت المنطقة الكائنة بين البحر المتوسط غربا و ارض الرافدين شرقا حتى بلاد العرب جنوبا.... كانت تتكلم لغة واحدة دعاها باللغة السامية كما اطلق مصطلح الساميون على الشعوب الأرامية والبابلية والعربية والعبرية بأنتسابهم الى اصل مشترك، طبقا الى جدول الأنساب بعد الطوفان حسب (سفر التكوين: 10)، فالرواية التوراتية تجعل هؤلاء الأقوام منحدرين من ابناء نبي الله نوح. (6) بينما يعتبر الباحث – بوتيرو – ان الروايات التوراتية فقدت اقدميتها في تاريخ الأداب العالمية بعد الكشف عن الوثائق المسمارية للدولة السومرية (7)
لكن مع ذلك اطلق المستشرقون من اوربين وامريكيين مصطلح (الشعوب السامية)، على شعوب الوطن العربي القديم ومصطلح (اللغات السامية) على لغتهم. (8)
منذ الألف الثامن قبل الميلاد اخذت شعوب الشرق الأدنى القديم التي كانت تحمل ملامح الحوض المتوسطي المشابهة لملامح الشعوب الحالية، تستقر تدريجيا على سفوح المرتفعات المحيطة بالسهل الرافدي. معتمدة على الزراعة والرعي بعد تركهم نظام جمع الطعام. والتي كانت تتلقى نسبة من الأمطار تكفي لحصاد مناسب. وكانت قرية – جرمو – اقدم تجمع سكاني معروف في بلاد الرافدين وقد قدر تاريخ هذا التجمع بطريقة الفحم المشع (كاربون – 14) يعود تاريخه الى 6800 قبل الميلاد (9). وفي الألف الخامس ق م بدأ سكان العراق القديم يستعملون معدن النحاس الى جانب الحجر، فظهرت اولى بوادر المؤسسات الأقتصادية وعرفت الأختام التي دلت على التملك، و تأسست حياة دينية بوضع طقوس وقواعد للدفن وبناء القبور، وكذلك تطور المجتمع اجتماعيا لكن من الصعب تتبع تطوره والتعرف على المراحل التي مر بها, فالتاريخ هو ترتيب الحوادث حسب تسلسلها الزمني وهو التاريخ النسبي. اما التاريخ المطلق فهو تحديد زمن الحوادث. ويصطدم الدارس لتاريخ الشرق الأدنى القديم بمشكلة محيرة سببها غياب الأطار الزمني الدقيق للأحداث والجدل حول تسلسلها (10).
كانت رقعة الأرض التي اكتشفها اولئك الذين هبطوا من المرتفعات نحو السهول الجنوبية الكائنة بين دجلة والفرات قد سموها بلاد: سومر،
بينما عرفت المناطق الوسطى بعدئذ بأسم اكد وبابل،
والشمالية بأسم اشور.
وقد تعلم الناس ان عليهم ان يعملوا ليأكلوا. فعملوا على تصريف المياه من الأراضي التي استقروا فيها وشقوا الأنهار واستصلحوا التربة في اقدم نشاط زراعي عرفه التاريخ وبوسائل اولية وادوات بدائية.
كانت معظم الأراضي مغطاة بالأعشاب المائية والقصب والبرك الغنية بالسمك، فالمياه كانت وفيرة كافية للري في الصيف لإرواء قطعان الماشية من الماعز والغنم.
وهكذا توفرت لتلك الجماعات البشرية الأولى الشروط المتوفرة للعيش. فلا عجب من ان يلقوا هنا عصا الترحال بعد ان نقلوا معهم ما استطاعوا حمله من ممتلكاتهم البسيطة وادواتهم الحجرية وبذور الحبوب. وبذلك انتقلت الحياة الزراعية في بلاد الرافدين من الشمال الى الجنوب.
يرقى تاريخ المجتمعات الزراعية الأولى الى عصر العبيد الذين عاشوا على مقربة من موقع اور المدينة السومرية العتيقة. فقد اظهرت التنقيبات الأثرية في القرن الماضي على بصمات لغة غير معروفة، خاصة بعد ما اكد الباحثون بأن الأثار المكتشفة ليس لها علاقة بالحضارة السامية. وعلى الرغم من جهلنا بالإسم الذي كان يحمله ذلك الشعب المجهول الهوية، الا اننا عرفنا من الكتابات التصويرية بأن لغة الأسماء، دجلة والفرات: ادجلات وبوراتوم هي لغة غير سومرية.
لقد شجع التقدم الزراعي على تشييد مخازن لحفظ الغذاء تماشيا مع تزايد عدد السكان وتاسيس المدن فحدث تغيير في بنية المجتمع الذي عرفنا اخباره عن طريق الحفريات الأثرية..
اما المنشئات العمرانية التي اقيمت في الألف الرابع ق م فهي منشأت دينية ومدنية وعسكرية لم تكن هناك وسيلة لتسجيلها لأن الكتابة لم تكتشف بعد.
هكذا فإن فجرتاريخ العراق القديم يرقى الى الألف الثامن ق م اى الى ما قبل العصر السومري بألاف السنين (11).هذا ما يصرح به المؤرخ الشهير صموئيل كريمر.
لقد قامت عام 1930 بعثة علمية المانية بالتنقيب في موقع – الوركاء – ونشرت تقريرها ثم استأنفت اعمالها بعد انتهاء الحرب العالمية بأدارة العالم الأثري – لانسن، جاء فيه انه تم اكتشاف معبد اينانا الذي كان مكرسا لعبادة الهة الخصب والحب في الدولة السومرية، ضمن 14 طبقة اثرية.كان من بينها تمثال رائع لرأس احدى سيدات مدينة الوركاء والبرج المدرج وهيكل الزقورة مع نقوش لأختام مصنوعة من الأحجار الكريمة مستقات من طقوس عبادية.
في عام 1920 اكتشف العالم س لانغدون في موقع جمدة نصر في جنوب العراق على اثار مهمة تدل على ظهور الأسرات الحاكمة في سومر يرجع تاريخها الى 3200 ق م (12)
كما اظهرت الحفريات الأثرية في موقع الوركاء على كؤوس واباريق ورسوم تميزت بأشكال هندسية ملونة بالأسود وعرفوا ان النظام السياسي للمجتمع السومري كان يتكون من الملك، رأس السلطة المدنية الذي كان يدعى – ان -.والكاهن – ان سي – ويعني الرجل الكبير.
يستغرب المتتبع لحضارة سومر بأن احدى المراحل البدائية للنظام السياسي كان نظاما ديموقراطيا أي انه كان قد سبق الديموقراطية اليونانية كثيرا...... فالسلطة العامة كانت تدار من قبل مجلس قيادة من كبار السن بينما كانت – الجمعية العمومية– تضم جميع الرجال الأحرار. فوجود هذه المؤسسة دليل على ان سلطة الحاكم كانت محددة (13).
يصعب على المؤرخين تحديد العصر الذي ساد فيه النظام الديموقراطي لكنهم عرفوا انه كان في الحقبة الزمنية 2700 ق م و في اعقاب تلك النظام، ظهر تنافس بين كهنة المعابد وامراء القصور، كانت نتيجتها ظهور كيانات عسكرية ذات نظام استبدادي متمثل في سلطة الفرد بدل القوة الروحية ؟.
واخيرا اندلعت الحروب بين اجا ملك كيش وكلكامش ملك الوركاء.
كان الملوك يحتكرون لأنفسهم الممتلكات ويستغلون الشعب الذي كان يعاني من سياسة الظلم والتعسف حتى تجاوزت قسوتها الى ضريبة الوفاة.
في هذه الظروف السياسية التعيسة ظهر الرجل القوي – اورو كاجينا – الذي تسلم السلطة نحو 2350 ق م في لكش واعلن برنامجه الإصلاحي. ربما كان الأول من نوعه في التاريخ البشري، شمل النقاط التالية :
رد الممتلكات التي اغتصبها الملوك،
تقليص نفوذ الأقوياء،
وتخفيض الضرائب،
ونشر المساوات،
منح الأم الرعاية الأجتماعية
ومنع التجاوز على حقوق الفقراء والأرامل والثكالى،
وتدعيم سلطة اله الماء – ان كي - (14)
لم يمض على عهد اوروكاجينا زمن طويل واذا به يهاجم من قبل خصمه لوجال زاجيري ملك اوما ولكش تنتهي الحرب بأنتصار الأخيرالذي ادعى ان اله الجو – انليل – هو الذي نقل اليه السيادة على مملكة سومر وزعم ان البيان التالي صادر من جلالته.... هذا نصه..
(عندما احكم – لوجال زاجيري – قبضته على البلاد من مشرقها الى مغربها من بحر الخليج جنوبا الى البحر المتوسط غربا وما بينهما من دجلة والفرات كنت انا الآله انليل في مقدمة جيشه وفي عونه، ارويه بماء المسرة.)
لم يمكث لوجان زاجيري في الحكم اكثر من ربع القرن، فقد دحر من قبل خصمه سرجون الأكدي حوالي 2334 ق م الذي بسط سيطرته على معظم المدن السومرية وغدا موظفوا الحكم الجديد يتكلمون اللغة الأكدية وهي اقدم لغة عربية عرفت في التاريخ القديم.
يعتبر الملك سرجون اهم شخصية تاريخية في العراق القديم، كان صاحب قدرات خارقة، نسجت حوله الأساطير، تذكرنا بعض ملامحها بطفولة النبي موسى الذي يفترض مجيئه بعد هذا الملك بألف عام.
ولد سرجون لأب مجهول ولأم كاهنة على ضفاف الفرات، ارادت امه ان تتخلص منه فوضعته في سلة وتركته في مجرى النهر فتلقفه بستاني ورباه وبعناية الهة الخصب عشتار دخل الصبي قصر الملك -زبابا- الذي عينه ساقيا، ثم تدرج في وظيفته حتى اضحى من الرجال المرموقين ووجد الفرصة وانفصل عن سيده واعلن برنامجه السياسي وجمع الأنصار وخاض الحروب ضد زاجيري حتى انتصر عليه وغدا سيد البلاد الأول.
وفي عام 2004 ق م بدأ الضعف يدب في الإدارة الأكدية مقابل ازدياد قوة ملوك المدن الذين استطاعوا ان ينتزعوا السلطة من ايدي الأكديين تدريجيا، وبهم بدأ العصر السومري الحديث.. جرت العادة ان تبنى البيوت حول المعابد تعبيرا على النزعة الدينية لدى السومريين وعلى الدور الذي كان يلعبه الكهان في الحياة العامة. كان اهم الألهة عند السومريين هم –ان– اله السماء و-انانا– عشتار اله الخصب والحب و-انليل– اله الجو وان -كي- اله الماء. و -نانا- اله القمر واتو-اله الشمس و -انانا– اله الأنثى و-نين مخ– اله الأم المقدسة.
من الأهمية بمكان ان لا نحط من قيمة انجازاتنا الروحية الرفيعة بل نأكد على ان فكرة الإله الواحد كانت منذ الأزل قد بنيت وازدهرت كزهرة الصحراء في بلدنا العزيز.
وتواصلا للحديث اقول ان السومريين اعتقدوا ان الحاكم الحقيقي للمدينة هو الهها وان الأمير يمثل الأله فنظام الحكم في سومر كان نظاما دينيا. واذا اراد الشعب السومري ان ينال الرفاهية ويسعد في الحياة عليه ان يخدم الالهة عن طريق بناء السدود وشق الجداول وتجفيف المستنقعات لهم.
كانت المعابد تتمتع بمركز سياسي وديني واقتصادي فائق فكانت صاحبة ثروات ضخمة تملك المزارع والحقول والحظائر والمستودعات ومشاغل للحرف ومخازن التموين ومراكز التوزيع. بالإضافة الى ذالك كان المعبد يدير تجارة فعالة وينظم القوافل برا وبحرا وله مراكب نهرية ايضا.
كانت لبلاد سومر علاقات تجارية مع بلدان المنطقة، فكان الذهب والفضة تجلب من ارمينية والعاج من الهند والقصدير من الشمال والأخشاب من سورية والأحجار الكريمة من افغانستان والعقيق الأحمر من مصر. والصدف واللؤلؤ والمرجان من مناطق بحر الجنوب. والنحاس من مملكة مجان (16)
اما الصناعة فقد ظهرت بوادرها في المراحل الأولى من الأستقرار فقد اكتشف السومريون الدولاب الخزاف الذي ساعد على تصنيع انواع من الأواني الفخارية وقالب اللبن والطابوق. كما ظهرت عندهم صناعة الأواني المطبخية والأدوات المنزلية من معدن النحاس الى جانب صناعة حلى النساء من البرنز والفضة والذهب. واشتهر السومريون في صناعة نحت التماثيل لألهتهم وملوكهم من الرخام العماني الصلد.
كانت الزراعة هي اساس الثروة في بلاد سومر، فقد زرعوا الحنطة والشعير والنخيل والأعناب لكن لم يتاح للباحثين امكانية معرفة كافية عن النظام الزراعي و اكثر الظن ان مساحة الأراضي التي استحوذ عليها الملوك كانت تشكل ثلث مجموع الأراضي الصالحة للزراعة. (17).
وقد اهتموا بالرعي : فربوا الأبقار والخنازير والماعز والغنم الذي استفادوا من صوفه لنسج ملابسهم لكنهم لم يكونو يعرفوا جز الصوف بعد. كما اكتشفوا المحراث والعربة بأربعة عجلات وصنعوا المراكب.
وتخبرنا الألواح السومرية عن وجود مختلف انواع الحرف عندهم بدأ من الخبازين والنجاريين والدباغين والحدادين والنساجين وصانعي الفخار والصاغة. وكان معظم العمال المكلفون بأدارة البساتين والمطاحن ومشاغل النسيج من طبقة الأحرار يشرف عليهم موظف من المعبد. وكانوا يتلقون مقابل خدماتهم قطعا من الأرض القابلة للزراعة تقدر مساحتها حسب معايير العصر الحاضر بثلاثة الاف متر مربع وتمليك اصحابها حمارا وعددا من الأغنام شرط ان يكونوا قد ادوا الخدمة العسكرية في الحرب، علما انه كان لكل مدينة سومرية جيشها الخاص بها تعداده ستمائة جندي متأهب للدفاع عن الوطن، لكن هذه الجيوش كانت تتحد مع بعضها تحت قيادة مشتركة زمن الطوارئ عند اعلان النفير العام. وكان الملك في هذه الحالة يتولى سلطة الكاهن والقاضي معا ويضع على رأسه ما يشبه العمامة.
اما بخصوص فن البناء السومري فقد اظهرت التنقيبات ان البيوت كانت عموما صغيرة الحجم مبنية من الطين و القصب ومتميزة بطابعها الموحد تشرف على طرقات ضيقة وملتوية والى جوار كل بيت كانت باحة مسيجة من الطين تكفي لحفظ الحيوانات. وكان البيت يتكون عادة من بهو و جرتين وموقد طبخ ومذبح يحوي على تمثال اله قدس الأقداس.
ان الصورة الحية التي استطاع الباحثون تكوينها عن المجتمع السومري عبر النصوص المكتشفة. اظهرت انه كان مجتمعا طبقيا تتمثل الطبقة العليا فيه من الملك الذي يعمل نيابة عن الالهة فكان يبدئ لها الولاء والإخلاص عن طريق انشاء المعابد وتقديم القرابين والدفاع عن اراضيها بالقوة المسلحة الى جانب تأكيدهم على رعاية الأمة وحرصهم على سلامتها.
اما مسئلة رعاية الأمة وتلبية احتياجاتها فكانت دوما ضمن البرنامج السياسي المعلن للحكام دون ان يتحقق،.كان على الشعب ان يكدح و يتصبب عرقا حتى يهيئ لأفراد السلطة وحاشيتهم اسباب النعيم. ولم يظفر الشعب بسياسة حكيمة الا بمجيئ المصلح اورو كاجينا.
اما عن الفن في العصر السومري فكان في مرحلة التطور وقد اشتهروا في صناعة الفخار وتزيينه بالألوان. وكذالك صنع التماثيل التي وجد منها في حوض الخابور وتل الخوير لكنها كانت غير مهذبة الصقل بينما تلك التي وجدت في مقابر الملوك كانت ذات قيمة فنية عالية كالقيثارة المرصعة الجميلة وراية اور المطعمة بحجر اللازورد والصدف تعرض مشاهد من الحرب والسلم، كما وجدت في قصور الملوك تراتيل ونوتات موسيقية، مما يدل ان استعمال الموسيقى والإستمتاع بفنها كان لم يقتصر على جو المعابد فحسب.. لقد ضاع وفقد الى الأبد معظم الأثار الموسيقية وحتى ألات الطرب البدائية من العصر السومري القديم فلم يعثر لها في الحفريات الأستكشافية من اثر....
بعد هذا الأستعراض المقتضب لتاريخ الحضارة السومرية والإطلاع على ظروفها الإجتماعية والسياسية لم نلاحظ يوما ما قيام اي صراع عرقي بين شعبها في تاريخها الطويل. فالعوامل الأقتصادية والأستراتيجية هي التي كانت تحرك اهواء الأمراء في اثارة الحروب. وعلى الرغم من تأصل ميزة العنف الإداري في نظام المدن وعند السلالات الحاكمة، الا ان التطور الحضاري كان موجودا و مستمرا -.
لقد رأينا كيف ان الجهود الحثيثة لحوالي 300 عالم اثري اجنبي قد تضافرت في الكشف عن اثار دولة سومر خلال قرنين من الزمن التي ساهمت في تكوين حضارة بشرية متكاملة كانت ثمرة كفاح اقوام عاشت على ارض الرافدين طوال الاف السنين. واستطاعوا من خلالها في اقامة صرح اقدم الحضارات الإنسانية في تاريخ العراق القديم. والسلام
المصادر
1- المؤلفان : محمد حرب فرزات و عيد مرعي في – دول وحضارات في الشرق العربي القديم. دمشق 1994 الطبعة الثانية دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر
2- ج اوتس ترجمة فوزي رشيد قواعد اللغة السومرية ص 27 – 1972
3- ر ك بيجس – الواح ابو صلابيخ – تقرير معهد الدراسات الشرقية – شيكاغو عام 1940-1955 تنقيبات في وادي ديالة.
4- صموئيل كريمر – السومريون – شيكاغو 1963
5- احمد بدوي اللغة المصرية القديمة وصلتها باللغات السامية – مجلة مجمع اللغة العربية – القاهرة 1961
6- توفيق سليمان – اسطورة النظرية السامية دمشق 1981 ص 58
7- بوتير – ولادة الألهة – غاليمار باريس 1986 (بالفرنسية)
8- س موسكاني – حضرة الشعوب السامية.
9- س كريمر – المصدر السابق
10- باركر – تزامن الحوادث في دولة بابل شيكاغو 1946
11- س كريمر – المصدر السابق –
12- اس لنجدون – حفريات كيش المجلد 3 باريس. من 1924 الى 1930
13- تي جاكوبسن، التطورات السياسية الأولى في سومر بلاد الرافدين 1957
14- م لامبرت – اصلاحات اوروكاجينا باريس 1968
15- روجيه غارودي - فلسطين ارض الرسالات السماوية ص 28 دار طلاس للدراسات والترجمة والنشر 1991 دمشق
16- طه باقر مقارنة في تاريخ الحضارات القديمة بغداد 1973
17- اي. ام. دياكونوف المجتمعات والدول في العراق القديم. موسكو 1959 (باللغة الروسية)