حمى التصريح بالممتلكات..التعفف عند المسؤولية واجب

وزراء العدالة والتنمية يصرحون بممتلكاتهم.. جميل.. ويتخلون عن سيارات الدولة ويركبون القطار "أوعلاش لاَّ".. و لم يغيروا عاداتهم السابقة، وزراء العدالة والتنمية يزهدون في الدنيا ويأكلون البيصارة ويسكنون في بيوت زوجاتهم أو في بيوتهم القديمة و"لم يبدلوا تبديلا.."، كل هذا الكلام جميل، والأجمل منه فصاحة اللسان التي امتلكها بنكيران خلال رده أمام أعضاء غرفتي البرلمان إبان التصريح الحكومي، لم يعرف البرلمان منذ زمان رئيساً للحكومة أو وزيراً أول ينقل كلامه ببساطة إلى عامة الناس قبل خاصتهم، ولعلم من لا عِلْمَ له.. فقد تابع المغاربة، الذين كانوا يهجرون كل القول في البرلمان، ردود بنكيران بحرص أمام التلفزيون ومن فاته أمام شبكات الإنترنيت وعلى صفحات الفايسبوك واليوتوب، ونقلا عن فيديوهات الجرائد الإلكترونية التي نقلت معها تعليقات مؤيدة، يقال إنها من صنع الأنصار والمتعاطفين، وحتى وإن كانوا أنصارا ومتعاطفين أو مريدين، فإن الأمر جميل وغاية في المساندة والتشجيع لمن يحملون أمل النجاح على ظهر هذه الحكومة وعميدها عبد الإله بنكيران "عضو" حزب الاستقلال سابقا واليساري ذات يوم وعضو الشبيبة الإسلامية ثم التائب السياسي الرزين الذي صار بلغة الدستور رئيساً للحكومة وحصل على ثقة 218 نائبا برلمانيا مقابل 135 معارضاً في "المشمش"..

هناك حديث رافق منذ أيام تطورات تشكيل الحكومة وتعيينها وتنصيبها، يتعلق بالتصريح بالممتلكات كما ينص على ذلك القانون.. كيف تم؟ وكيف كان يجب أن يتم؟

تاريخ التصريح بالممتلكات

تتعلق الفكرة بالتاريخ الذي يستوجب فيه على كل مسؤول تقديم تصريح بممتلكاته إلى الجهات المختصة، فالعودة إلى التاريخ للنبش في أصل هذه التصاريح، قبل سنوات خلت حينما كانت المعارضة معارضة، أيام الثمانينيات وبداية التسعينيات أخرجت شعار "من أين لك هذا؟" وتتذكرون بدون شك ذلك الكاريكاتور للأستاذ العربي الصبان الذي يصور العم "مهماز" يشير بأصبعه إلى بطن منتفخة و"متدلية" لأحد النافذين الذين تظهر عليهم النعمة يسأله "من أين لك هذا؟" حتى ترسخ في الذاكرة الشعبية أن كل رجل سمين يلبس قميصا أبيض وربطة عنق سوداء طويلة "وكوستيم" ونظارات طبيعية ويقف أمام الميكرفون أو على منصة، دائما هو "كرش الحرام.." حتى دار الزمان وصارت المعارضة السابقة تقف على المنصات وتجلس وراء الميكروفونات توصف بنفس النعوت.!

حديث من أين لك هذا؟! جاء بمفهوم التصريح بالممتلكات، بوصفه تحصينا للمسؤولين، حتى لا يُرْمون بما ليس فيهم، يعني أن الوزير والبرلماني مطالبين بالتصريح بما يملكون بداية كل ولاية تشريعية حتى "نَتَحَاسَبَ" معهم عند مغادرة مهامهم، ونقارن ما أصبحوا يملكونه بعد انتهاء مهامهم مع ما كانوا يملكونه قبل أن يصبحوا برلمانيين أو وزراء، والغريب في الأمر أن هذه المقارنة لم تتم يوماً ، لا في عهد حكومة اليوسفي ولا قبله ولا بعده، يعني أن تخليق الحياة العامة ثمَّ على الأوراق فحسب، أعتقد أن تلك المعطيات ظلت حبيسة رفوف المجلس الأعلى للحسابات أو على أكبر تقدير كانت موضوع تقارير سرية تسلمتها بعض الجهات حتى تظهر وقت "اللزوم".

تطور الأمر "عندما بدأت بعض – القوالب – تسري وتجري في هذا التصريح وذاك"، عندما بدأ المسؤولون يصرحون أنهم لا يملكون من متاع الدنيا شيئا، أو لم يتحصلوا على شيء خلال مهامهم، في الوقت الذي أصبح فيه أولادهم وزوجاتهم وأقربائهم من الأغنياء!! آنذاك تبين أن في الأمر خديعة، فتمت مراجعة القانون بأن يتضمن التصريح بيانات عما تملكه الزوجة والأولاد والأم والأخت والأخ، ومع ذلك لم تتم محاسبة ولو حالة واحدة، مع أن الأمر أصبح فيه تراكم، يعني هناك ملفات لمسؤولين عبروا خلال العشرة سنوات الأخيرة ولم يعلن عن صفاء ذمتهم من عدمها، لأنه لا يكفي التصريح وإلا فإن ذمتهم تظل معلقة إلى حين إصدار قرارات أو أحكام أو شهادات لإبراء الذمة مسلمة من المجلس الأعلى للحسابات!

لم نطلع بعد على شيء من هذا القبيل ولم نسمع ولم نقرأ أن فلانا دخل البرلمان ودخل الوزارة "يعطى المثال بالبرلمان والوزارة لأن الذاكرة الشعبية تعتبر أن وحدهم هؤلاء أسباب البلاء.." مع أن الحقيقة شيء آخر، هؤلاء فقط يوجدون في الواجهة اليومية، ولذلك فإن القانون يتحدث عن لائحة طويلة من المسؤولين الذين يجب أن يدلوا بتصريحاتهم..!

"وكان يملك كذا وعندما خرج أصبح يملك كذا وكذا وكذا.. وهذه أسباب هذا المِلْك المشروع أو غير المشروع".. يبدو أن الطريق لا زال طويلا، أو عفى الله عما سلف كما قال بنكيران "فْهَمْتِوْا.. جُلتُ بكم كل هذه المسافة تاريخا وواقعا.. لكي نصل إلى التفسير الذي دفع بعض الساسَة للتوجه إلى العموم عبر الصحافة للتصريح بممتلكاتهم علناً وكأنهم بذلك يقولون إنه لا شيء يُجْبِرُنَا على إخفاء ما نملك وعلى التوجه إلى المجلس الأعلى للحسابات فقط.. جرعة من الأخلاق والتخليق، ولكن الذي لم نشهده ولم نسمع به هو أن يصرح أحدهم بما كان يملك قبل "النعيم" وبعد "النعيم"، أما أن يحدثوننا بما يملكون في بداية المشوار وبعده يرحلون و"يضْرِبُونَها بصقلة".. ولا نَطَّلِعُ نحن عما جَنَوْهُ من بعد لأنفسهم أو على أنفسهم.. فذلك بعيد عن فلسفة التصريح بالممتلكات.

مظاهر من التصاريح على الرصيف

شجاعة الإعلان عن الممتلكات لم تكن وليدة اليوم فقط، مع مجيء "نبلاء" العدالة والتنمية إلى الوجود، على الأقل يمكن أن نتذكر التصريح الشهير الذي قام به امحمد الخليفة الوزير السابق في الوظيفة العمومية على صفحات أسبوعية الأيام، وبعده تصريح أفيلال وتصريحات أعضاء قياديين في اليسار الاشتراكي الموحد.. واليوم نكتشف تصريحات وزراء بنكيران، والحقيقة أنني كنت أعتقد أن الداودي والخلفي وغيرهم من "المعدمين" فتبين لي أنني واهم، هؤلاء الناس كغيرهم ممن ابتسم لهم الزمان يملكون الفيلات والأسهم في الشركات والشقق واحدة وإثنان وفي أهم شوارع البلد وأنهم ليسوا من الزاهدين في الحياة، الرميد كان محاميا كبيراً، قبل المسؤولية الرسمية جمع مالاً وأملاكاً، والخلفي على حداثة سنه يقول إن رصيده أصله إِرثٌ وما جَادَ به الأجداد، كل هذا لا يلوث ضمة هؤلاء في شيء، لكن قانونيا فإن التصاريح المعلنة كان يجب أن تجد طريقها إلى المجلس الأعلى للحسابات وليس على صفحات الجرائد وإلى العلن بحثا عن شعبية أكبر، والتصاريح هذه يجب أن تحصل أيضا نهاية سنة 2016 التاريخ المفترض لنهاية المهام، أتمنى ألا ينضاف إلى ما قيل عن طريق أجرة الدولة إلا ما هو معقول ، لأنه لا يجب كيفما كان الحال أن نحرم الناس من امتلاك أشياء أو متاع آخر إذا كانت هناك موارد أخرى غير الوظيفة الحكومية من قبيل الإرث والتجارة الموكل أمرها إلى الوكلاء..!

أسئلة التصريح في القانون والتعفف

قانون التصريح بالممتلكات أو التصريح الإجباري بالممتلكات يخص فئات عريضة، تتجاوز في الواقع الوزراء والبرلمانيين، ويخص بصريح العبارة أعضاء الحكومة وأعضاء دواوينهم، ويخص أعضاء المجلس الدستوري لأنهم يملكون سلطة "قضاء واعرة" ويخص أعضاء مجلس النواب وأعضاء مجلس المستشارين ويخص القضاة وما يدور في فلكهم..

طبعاً وحتى لا تصدر الجمعيات التي ينتسب إليها القضاة بيانا.. أقول إن هناك "النزهاء" وهناك "غير النزهاء" ويخص قضاة المحاكم المالية.. يعني أولئك المنتسبين إلى المجلس الأعلى للحسابات ومجالسها الجهوية، ويخص أعضاء الهيئة العليا للاتصال السمعي البصري ويخص منتخبي المجالس المحلية والغرف المهنية وبعض الموظفين أو الأعوان العموميين.. تفاصيل هذه القوانين موزعة عبر ظهائر شريفة بمثابة تنفيذ للقوانين التنظيمية رقم 49.07 و50.07 و50.06 و51.07.. وفي تفاصيلها منعرجات معبدة وأخرى غير معبدة ، لا أستطيع أن أجزم أن العمال والولاة معنيين بهذه التصاريح أو غير معنيين وما دونهم في السلطة من قياد وبشاوات ورؤساء دوائر وعمداء الشرطة، وهذه الأخيرة تقودنا إلى الحديث عن الدرك بكل مراتبه والجيش بجنرالاته و"كولونيلاته" وغيرهم، ربما هناك نظام خاص بهذه الفئة من "حراس" الدولة لتبعيتهم المباشرة إداريا إلى رئيس الأركان، بدون شك هناك نظام صارم ولكن هناك كلام عن غِنَى، زادهم الله من نعيمه إذا كان صلب مالهم من حلال مستحق، لأن الحلال أيضا فيه المستحق وغير المستحق، وسأعود بكم إلى قصة بسيطة بطلها الوزير غلاب ورئيس مجلس النواب حاليا..

غلاب هذا أثير حول انتخابه رئيسا للبرلمانيين النواب كلام وصل إلى حد قضاء المجلس الدستوري الذي قضى بعدم الاختصاص، ومع انتهاء مهامه الوزارية ودخوله غمار رئاسة النواب أذيع حديث عن استفادته من بعض الامتيازات من قبيل أرض أو سكن للاصطياف في الهرهورة، ودفعاً لكل أدية قال غلاب إن تلك كانت مسطرة قانونية لا غبار عليها استفاد منها كما استفاد موظفون آخرون من نفس وضعيته، لنسلم بأن هذا الأمر صحيح وأن الإدارة التي كان ينتسب إليها "أكرمت موظفيها" على نفس قدر المساواة فمكنته ومكنت غيره من أرض تدخل في إطار الملك العمومي البحري لمدة مؤقتة لا تتجاوز تسعة وتسعين سنة مقابل واجب كراء سنوي يستطيع أن يؤديه "بائع النعناع بدون مشاكل"، فإن الواجب كان يفرض شيئا من العفة..

الأرض التي استفاد منها غلاب وربما غيره استفاد منها لما كان موظفا عاديا أو وقد أصبح الرجل على ما هو عليه اليوم، فقد كان عليه أن يقول حتى وإن سلمنا بصفاء الذمة، أن ذلك "الكرم" وذلك الامتياز أتنازل عنه من باب العفة والتعفف لأن بلدي أكرمني براتب محترم أستطيع من خلاله أن أشتري ليس بقعة فقط بالهرهورة بل مسكناً محترماً على ضفاف جزر الكناري أو على ضفاف "مارينا اسمير"..

والحديث عن الامتياز يقودنا إلى إثارة موضوع شخص آخر إسمه إدريس الراضي بصفته رئيس فريق الاتحاد الدستوري الذي استفاق بعد زمان ليعلن خلال رده على تصريح رئيس الحكومة أنه يملك "كريما" للنقل (طاكسي) يتنازل عنها ويتنازل على أربعين في المائة من تعويضه كبرلماني، إنه لأمر مستحسن حقا ولكنه يبعث على الضحك في نفس الوقت، اعلموا حفظكم الله أن الولاية التي يتقاضى بموجبه الراضي أجره الذي تنازل عن 40 في المائة منه قد شارفت على النهاية، وما هي إلا مسألة شهور معدودة حتى ينقضي هذا الالتزام واعلموا أن هناك برلمانيين فيما سبق من زمان قد تنازلوا عن تعويضاتهم كُلِّيا لفائدة الدولة أو لفائدة مساندة الكفاح الفلسطيني، ولا داعي لذكر الأسماء احتراما لهؤلاء لأنهم فضلوا عدم الجهر بذلك والتباهي به..

أما قصة "الكريمة" فإن الراضي "نبيل" في تنازله عن هذا الامتياز الذي حصل عليه فيما سبق ولم يكن من أعضاء جيش التحرير ولا من اليتامى ولا ممن يخول لهم الزمان ذلك، ومع ذلك تُحسب له هذه الخطوة في الفضاء والزمان،

وقد كان أَوْلَى للبرلماني المذكور أن يزيد في تعففه ويقول إنه يتنازل أيضا عن آلاف الهكتارات التي يستغلها بموجب عقد لمدة تسعة وتسعين سنة من الأراضي السلالية الغنية بالأخشاب بمنطقة الغرب، طبعا لا أقصد الغرب الأوربي أو الأمريكي أو الغرب الذي كان المصريون الفراعنة يدفنون فيه أمواتهم العظماء!