التربية الحياتية

في عصر ينسج نفسه على تقاسيم الخيال ويتجاوزه ، في زمن ترتدي فيه الحضارة ومض التسارع، وفي مرحلة أصبحت فيه عطاءات اللحظة الواحدة عصرا ، وفي عصر أصبح فيه دهر الأمس لحظة ، يترتب على التربية أن تبحث عن هوية جديدة ، وعن قامة عصرية متجددة تمكنها من مواكبة إيقاع العصر . فالتربية اليوم تمر في مرحلة حرجة وتواجه تحديات تاريخية فائقة الأهمية ، وهي في نسق العصف الحضاري الجديد تحاول أن ترتدي رداء العصر الذي يختنق بومضات التسارع .

في ظل هذه المعطيات الجديدة يصدر كتاب الأستاذ الدكتور عبد الرحمن أحمد الأحمد " التربية الحياتية " خوضا نوعيا في معطيات الحياة المعاصرة بما تنطوي عليه من جدة وتسارع ليجسد نداء تربويا نحو تربية للحياة وحياة للتربية تنهض بالمجتمع والإنسان إلى آفاق حضارية وإنسانية جديدة تسير على إيقاعات العصر وتتحسب لعطاءات حضارية تطل من دوائر الممكن .

وقبل الخوض في عطاءات الكتاب وجديد الأفكار التي يطرحها يقضي الموقف المنهجي في هذه القراءة أن نقف وقفة منهجية في خلفية الكاتب العلمية التي شكلت فيض عطاء إنساني وعلمي تجسد في دورة حياة علمية معطاءة أتاحت للكاتب أن يغرف من تجربة علمية مضمخة بالممارسة العلمية المسؤولة الخلاقة عبر ثلاثين عاما من العطاء المنتج .

فحصاد الدكتور الأحمد خلال ربع قرن من الزمن وفرة من الإنتاج العلمي الذي بلغ أكثر من خمسة وأربعين عملا علميا مثمرا توجت بحصوله على جائزة التفوق العلمي في العلوم الاجتماعية والإنسانية في عام 1989 من مؤسسة الكويت للتقدم العلمي . وقد تمرس الأحمد في المناصب العلمية فأخصب العطاء وأوقدت فيه تجارب المسؤوليات العلمية وهج العطاء فقد مارس مسؤوليات بدأت بتسلمه عمادة كلية التربية لأكثر من مرة ، ورأس هيئة تحرير المجلة التربوية في جامعة الكويت كما رأس هيئة تحرير موسوعة الكويت العلمية للأطفال ، ونال شرف عضوية المجلس الوطني للثقافة والعلوم والآداب ومن ثم عضوية المجلس الأعلى للتخطيط بدولة الكويت وهو يشغل مسؤوليات علمية عديدة لسنا في مجال تعدادها .

وما أشرنا إليه قد يقدح في الذهن صدق العطاء لكاتب خضبته التجارب العلمية فأوقدت فيه حب العطاء وعشق الإبداع .

جاء الكتاب سفرا علميا في تناول قضايا معاصرة ومستجدة بروج منهجية جديدة تتناسب مع إيقاعات الجدة في المنهجية العلمية . يقع كتاب الأحمد " التربية الحياتية " في 448 صفحة من القطع الكبير ويشتمل على تسعة فصول هي على التوالي : الآفاق المستقبلية للتعليم : منطلق الوثيقة القومية للتعليم حتى عام 2025 ، التعليم الفعال لتحقيق التميز العلمي ، التربية الأسرية ، والتربية الوطنية ، والتربية الاستهلاكية ، والتربية والعمل ، والتربية التكنولوجية ، والتربية البيئية ، والشباب وأوقات الفراغ. فالعناوين كما تعلن عن نفسها تدخل في صميم القضايا التربوية المعاصرة التي تطرح نفسها في عصر الكونية والعولمة بأبعادها المختلفة .

من حيث المنهج يعتمد الكاتب منهج تحليل النظم ويعول على طبيعة العلاقات الجدلية القائمة بين الأنساق التربوية وبين الأنساق الاجتماعية . ولا يقف الباحث وقفة تأملية بل يخوض في غمار الواقع لينهل من عطائه ويحلل منحيات حركته في نسق روح تربوية أصيلة . ولا نبالغ إذا قلنا بأن المنهجية المعتمدة تستجمع رشاقة منهجية أصيلة استطاع فيها أن يكيف الواقع للنظرية فيغتصب حلم الحقيقة بل استطاع أن يوظف النظرية في خدمة الواقع ويكيفها لمنعطفاته واتجاهاته الحيوية في مناقشة مختلف المظاهر والتحديات الاجتماعية والتكنولوجية المعاصرة التي يعالجها الكاتب بأناة وإصرار علمي متكامل.

ومن حيث المراجع المعتمدة اتصفت هذه المراجع بالتنوع والغنى والجدة والأصالة واغلبها مراجع أجنبية حديثة النشأة والحضور . ومع أن الباحث لم يقدم إحصاء لعدد المراجع التي وظفها إلا أننا قد أحصينا عدد الصفحات التي وردت فيها فجاءت أكثر من سبعة عشر صفحة من المراجع الأجنبية والعربية . وهذا ينبئ بمدى الجهد الكبير الذي بذله الباحث في تغذية أبحاثه بعطاء المعرفة الإنسانية .

ومن حيث اللغة ، جاءت لغة الكتاب سهلة بسيطة ممتعة يغلب عليها طابع التشويق والإثارة ولا يخلو الكتاب من لمحات وإيماءات فنية أدبية بديعة أضفت على الكتاب مسحة من العطاء الجمالي الذي يشد القارئ ويستهويه .

يعالج الكاتب في الفصل الأول من كتابه بعنوان : " الآفاق المستقبلية للتعليم : منطلق الوثيقة القومية للتعليم حتى عام 2025 " الأبعاد السياسية والاستراتيجية للتربية في المجتمع الكويتي المعاصر . وفي البداية ينوه الأحمد إلى أهمية التغيرات التاريخية الجديدة وأهمية تطويع التربية الحالية لمقتضيات الحركة التاريخية المعاصرة وتحريرها من معطلات الحركة وأسباب الجمود والانغلاق . ويرفع نداء تربويا إلى أهمية إحداث تغيرات جوهرية في التربية الكويتية المعاصرة ولا سيما في المناهج وطرق التعليم والغايات والوسائل وذلك من أجل تكوين الأجيال القادرة على العطاء والممارسة التاريخية الحقة .

وهو في هذا الفصل يطالب بأهمية التركيز على بناء الشخصية الإنسانية للمتعلمين وبالتالي يعلن أهمية النضال ضد الأساليب التربوية التي تعتمد على الذاكرة والتلقين . وهو في هذا السياق يؤكد على أهمية الجانب السلوكي الأخلاقي في الشخصية يقول في هذا الخصوص" إن بناء الشخصية يعني بناء القدرة على التعامل مع المشاكل الأخلاقية والفلسفية المعقدة في عالمنا المعاصر ، حيث تؤكد الكلمات السامية لحضرة صاحب السمو أمير البلاد حفظه الله على البعد الأخلاقي في التربية لأهميته في إعداد جيل المستقبــل " (ص 15) .

وفي سياق هذا الفصل يركز الباحث بصورة منهجية على عطاءات الفكر التاريخي لسمو أمير البلاد حفظه الله ، ولا سيما الجوانب المستقبلية في الفكر التربوي عند صاحب السمو، ويورد الأحمد منظومة من المقولات التاريخية لصاحب السمو في هذا الميدان والتي تستشرف المستقبل على نحو تاريخي . كما أنه يقوم بتحليل القيم الحضارية والإنسانية والأخلاقية في الخطاب التربوي الأميري المعاصر .

وفي الفصل الثاني : التعليم الفعال لتحقيق التميز العلمي :

يستعرض الأحمد في هذا الفصل المناهج الفعالة في العملية التربوي ولا سيما هذه التي تؤكد على أهمية الروح النقدية والتي تعتمد أساليب وفنون التربية الحرة المنهجية من أجل بناء الشخصية الإنسانية . ويؤكد الباحث على أهمية التفاعل التربوي النشط وذلك من خلال : المقابلات والمحادثات والأبحاث والقراءة الفاعلة وهو في هذا السياق يركز ويوضح المخططات المنهجية الضرورية التي يمكن اعتمادها في بناء الإنسان وفقا لمعطيات التربة الفعالة التي يمكنها لان يتحقق نماء الفرد وازدهاره للتكيف في عصر الجدة والتغير والتحديات .

أيضا وهذا الفصل ينطوي على مفاهيم جديدة تتصل بتحديدات تتعلق بتكوينات منهجية حول مماحكات العقل وخرائطه ومكوناته وهنا تكمن أصالة هذا الفصل حيث يتيح للمهتمين الاطلاع على بعض من الملامح الجديدة في المناهج التربوية الحديثة التي تعتمد مقولات عصف العقل واستمطار الدماغ وغيرها من المفاهيم التي تؤكد حيوية العقل وإمكانية تفجير طاقاته نحو الإبداع والصيرورة والفعل .

وفي الفصل الثالث بعنوان : التربية الأسرية .
يناقش الأحمد في هذا المسار الحياة الأسرية والتربية وفقا لمعطيات التجدد في المفاهيم والتصورات وقيم الحياة والمشكلات التربوية الجديدة التي تواجهها الأسرة في هذا المدى . وكما هو الحال في أغلب تضاريس الكتاب فإن الباحث لم يقف عند حدود التنظير والعموميات بل جاء العمل ليؤكد أهمية الواقع عبر الدراسات الميدانية . وفي هذا الفصل يعقد الكاتب المقارنات العلمية بين أوضاع التربية الأسرية في دولة الكويت وبين واقعها في كل من هايتي وفيتنام ( انظر ص 117) وفي نسق هذه المقارنة يبين الباحث سلبيات ومسالب التربية الكويتية حيث غياب الحوار في داخل الأسرة وغياب التفاعل التربوي بين مكونات وجودها . هنا وفي هذا المسار يستلهم الأحمد أهمية التفاعل التربوي الحر بين أفراد الأسرة على أسس ديمقراطية خلاقة تؤكد قيم الحرية والإنسان وحقوق الأطفال ومبدأ الاختلاف . ومن ثم يفند أهم الرواسب التربوية ويحدد المنحيات الأساسية والمنهجيات الفاعلة التي يمكنها أن تحرر التربية الأسرية الكويتية من رواسبها وعناصر تخلفها . ويؤكد الأحمد في جملة ما يؤكد على أهمية التربية الديمقراطية داخل الأسرة بما تنطوي عليه هذه التربية من حرارة ودفء وعطاء ولما لهذه التربية من آثار إيجابية في تكوين الإنسان الحضاري .

في الفصل الرابع " التربية الوطنية " يؤكد الباحث أهمية القيم الوطنية والمدنية والإنسانية في بناء الإنسان المعاصر . وهنا يحذر الكاتب من مخاطر التربية التي تقوم على التعصب والانتماءات القبلية والعشائرية ويعزز أهمية بناء المعايير التربوية التي يمكنها أن تحرر عقول الأطفال من الرواسب التاريخية التي تتحرك في عمق الوعي عند الراشدين والتي تشد في حضورها في داخل الثقافات التقليدية في الوطن العربي . هنا يرفع الباحث شعار : التربية من أجل الوطن من أجل الإنسان من أجل الحرية من أجل الديمقراطية ومن أجل حقوق الإنسان . وهي بالتالي متطلبات الحضور والوجود في عصر تقف فيه الرواسب بما تنطوي عليه من قهر وتسلط وانتماءات بغيضة في وجه الحركة الحضارية للإنسان.

وفي الفصل الخامس " التربية الاستهلاكية " ينحني الكاتب ليناقش واحدة من كبريات القضايا التربوية والاجتماعية التي تواجه المجتمعات العربية ولا سيما الخليجية ولا سيما هذه التي تؤكد قيم الاستهلاك والسلبية والتبعية على حساب قيم الإنتاج والمشاركة والحضور والإبداع . ومع أن الكاتب ينطلق في دراسة هذه القضية على أسس فلسفية إلا أنه يحدد منهجا تربويا يمكنه أن يقف في وجه المد السرطاني لتربية استهلاكية تكاد تأخذ بالإنسان وإمكانياته الحضارية إلى مرامي الهاوية .

وهنا يؤكد الباحث أهمية رفض القيمة الاستهلاكية والتربية التي تؤدي إلى بناء الإنسان ذي البعد الواحد وفقا لمصطلح ماركوز . التربية التي ينشدها الأحمد في هذا الفصل هي التربية الإبداعية التي تحمل الإنسان مسؤولية الإنتاج والمشاركة والفعل والمبادرة .

ويأتي الفصل السادس " التربية والعمل " تتويجا للفصل الخامس في التربية الاستهلاكية . قي هذا الجانب يناقش الأحمد أهمية بناء تربية تؤدي دورها في تأكيد مبدأ حضاري قوامه " الحياة من أجل العمل " وليس العمل من أجل الحياة وهنا يرفع الكاتب من مبدأ العمل بوصفه غاية وقيمة عليا يجب أن ينهجها المجتمع في مجال نمائه الحضاري . العمل عنوان حضاري عنوان لرحلة الإنسان نحو البناء وتأكيد الهوية . وهذا يعني بأن التربية يجب أن توظف في بناء تربية تمجد العامل وتسعى إلى بناء عقلية قوامها أن العمل غاية من غايات الوجود العليا أو بالمعنى الإسلامي " العمل عبادة " ، ووجوبية العمل على مبدأ اعمل ليومك كأنك تعيش أبدا ولآخرتك كأنك تموت غدا .

ويكرس الكاتب الفصل السابع لمعالجة قضية التكنولوجية والحياة والتربية . ففي غمرة الثورات التكنولوجية المتواترة التي يشهدها العصر ، في معترك الومضات الإبداعية في مجال التكنولوجية يناقش الباحث أهمية بناء العقل التقني والتكنولوجي العربي على أسس تربوية خلاقة . وهنا وفي هذا المسار يحدد الباحث أهم الخطوات المنهجية التي يجب على التربية العربية أن تأخذ بها بعامة وفي الكويت بخاصة وذلك من أجل احتواء المدّ التاريخي للثورات العلمية والتكنولوجية وبناء الإنسان الذي يتفاعل مع معطيات الحضارة التكنولوجية مبدعا ومنتجا وفاعلا. والباحث في هذا الفضاء يحدد أهم الاتجاهات العالمية في التربية التكنولوجية مؤكدا على أهمية الاستفادة من هذه الاتجاهات في التخطيط لحياتنا التربوية التكنولوجية في القرن الواحد والعشرين .

وفي التربية البيئية التي تغطي الفصل الثامن من الكتاب يتناول الكاتب هذه الإشكالية بروح علمية معاصرة . وهو بالتالي يحدد أهم الاختناقات في التربية العربية التي تناهض تربية بيئية خلاقة تمكن الإنسان العربي من الحضور في عالمه الكوني . وبعد أن يعرف الباحث بالتربية البيئية مفهوما وممارسة يحدد أهم المخاطر التي تحيق بوجودنا البيئي في مجال بيئتنا الخاصة ويؤكد على أهمية وعي بيئي وتربية بيئية تؤدي إلى بناء عقلية بيئية علمية زاهية ومتفتحة تحرر المنطقة من مخاطر التلوث البيئي بكل أنواعه وصيغه وتجلياته .

وفي الفصل التاسع والأخير عطاءات دراسة ميدانية تبحث في أوقات الفراغ عند الشباب في المجتمع الكويتي وذلك انطلاقا من أهمية الوقت الحر الذي يمكن توظيفه في المجتمع . وفي هذه الدراسة يسعى الكاتب إلى تحددي المشكلات والأولويات والاهتمامات والطموحات التي تتصل بأوقات الفراغ في المجتمع الكويتي المعاصر .

وتأتي أهمية هذه الدراسة " أوقات الفراغ عند الشباب " من أهمية الموضوع ومن أهمية الجهد الكبير المبذول في هذه الدراسة : لقد بلغت عينة الدراسة 3739 من الشباب في الكويت ويكفي أن يشار إلى حجم العينة لمعرفة هنا حجم الجهود المبذولة في هذه الدراسة .

ويتضح من نتائج الدراسة أن الشباب يمارسون أنشطة وفعاليات سلبية مثل مشاهدة التلفزيون والفيديو والتنزه وتضعف أهمية النشاطات الإيجابية مثل المطالعة والمشاركات الثقافية والعلمية والمشاركة في النـدوات .

وفي هذا المستوى يؤكد الكاتب ومن جديد على أهمية التربية في بناء توجهات جديدة عند الشباب تعزز لديهم أهمية العمل المثمر الخلاق الذي يؤدي إلى تنامي الإمكانيات والفعاليات الحضارية لشباب في معركة البناء والمشاركة في تنمية مجتمعاتهم .

وبالطبع فإن الكاتب يحدد في يحثه هذا أهم المشكلات والتحديات النفسية والاجتماعية والتربوية التي يعانيها الشباب ويعمل على صوغ بعض التوصيات الهامة التي يمكن أن توجه عمل صاحب القرار لتوظيف الطاقات الخلاقة للشباب ومساعدتهم على التحرر من مشكلاتهم لمواجهة عصف الحضارة وتحديات العولمة نحو بناء مجتمع قوي متماسك فاعل في مستو أدائه الحضاري والإنساني .

وفي النهاية يمكن القول أن الكتاب ينطوي على طروحات جديدة ويمتلك منهجية متجددة ويشكل إضافة إلى العطاء العلمي في التربية العربية . وإذا كانت هناك من ملاحظة فهي أن الكاتب ومع الأسف

الشديد لم ينشر في مستوى دار نشر عربية واسعة الانتشار وذلك يعني أن شريحة واسعة من القراء والباحثين لن تتح لهم فرصة الاطلاع على عطاءات العمل والاستفادة منه .