بسم الله الرحمن الرحيم

في
الشريعة الإسلامية

السيد الدكتور: محمد بن علوي المالكي
خادم العلم الشريف في مكة المكرمة

?????? ??? ????? ???? ???? ????? ???? ?? ????? ???????

خلق الله الانسان وأهله ليكون خليفة في الأرض يعمرها بالخير والفضيلة والهدى ويدعو إلى العدل والمساواة والعطف والرحمة والأخذ بيد الضعيف واغاثة الملهوف وتوجيه المجتمع بقدر ما يستطيع إلى وسائل الفلاح والصلاح.
ولكي تتحقق الحكمة الالهية في خلق الانسان ويتبين المصداق الحق لقوله تعالى ارشاداً للملإ الأعلى (إني أعلم ما لا تعلمون) لا بد لقوة الخير في الإنسان من مدد يعينها ويقويها على سد منافذ الشر والطغيان وعلى استخدام الشهوة والغضب فيما يحفظ له نوعه وكيانه. ولا شك أنه لو ترك الانسان ونفسه فانه لا يستطيع أن يحفظها من الاندفاع إلى الشر وسبيل الضلال بما ركب فيه من شهوة وغضب اندفاعا يصل في كثير من المواطن إلى حد استباحة انتهاك الأعراض وسفك الدماء وسلب الحقوق ملبياً ومستجيباً لبريق الدنيا وزخرفها وشهواتها ومغرياتها فيغلب شره خيره وفساده صلاحه عاجزاً عن تحقيق التوازن بين دواعي الخير ودواعي الشر. وتنعكس عندئذ حكمة خلقه وجعله خليفة في الأرض وبذلك تصدق فيه نبوءة الملإ الأعلى حينما قال الله سبحانه وتعالى لهم: (إني جاعل في الأرض خليفة – قالوا- : أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك) (البقرة).
فظهر بهذا وجوب وجود مدد قوي ثابت يعين الانسان على تحقيق التوازن بين قوة الخير والشر ويدفعه بما ركب فيه من عقل يعرف به الهدى من الضلال والرشد من الغي إلى الخير يكون فيه خليفة في الأرض يعمرها وينميها وينشر فيها روح الأمن والطمأنينة والاستقرار.
فما هو هذا المدد العظيم؟ ومن أي أصل ينبع؟ أقرب جواب يعتز به الفلاسفة وهم الذين يعتبرون في نظر كثير من العلماء المفكرين الطبقة الراقية العالية المفكرة في المجتمع (أنه العقل).
فهو في نظرهم الذي يحدد موازين الخير والشر، والفضيلة والرذيلة ويتخذ منه دستور الحياة ليسير على مقتضاه.
والحق أن هذا الجواب فاسد، وأن العقل لا يستطيع أن يقود الانسان إلى الحكمة المقصودة من خلقه.
ان العقل لا يصح أن يكون مقياساً يحدد موازين الخير والشر وينظّم الحياة لأن الانسانية جربته حينا من الدهر ولا تزال تتغلب في جمره بين حرب حامية تأكل الأخضر واليابس وتدمر الجهود التي تبذل في بناء الحضارات واقامة المنشآت وبين حرب باردة تملأ القلوب خوفا وهلعا. وهي في الحربين لا تعرف انصاف مظلوم من ظالم ولا تترفع عن استعباد الضعفاء وسلب الحقوق والحريات وتهديد الأمن والاستقرار. وهي في الحربين لا تتنسم روحا من نسمات الروحية الفاضلة التي تعصم الانسان من التبذل في نفسه وتقيه الارتكاس في حمأة الاباحية الضالة والمادية المظلمة.
ان العقل لا يصلح أن يكون مقياساً يحدد موازين الخير والشر لأن العقول تتفاوت في ادراك الخير والشر، وفي حكمها على الاشياء ومعرفة حكمها فيستحسن بعضها ما لا يستحسنه الآخر ويستقبح بعضها ما لا يستقبحه الآخر.
ان العقل لا يصلح أن يكون مقياساً لأن العقول عرضة لأن تطغى عليها في تفكيرها وتقديرها الشهوات والأهواء والتأثر بالشخصيات والاقليميات وسائر الأغراض الكامنة في النفس التي لا تستطيع أن ينتزعها ويطهر النفس منها علم ولا فلسفة.
ان العقل لا يصلح أن يكون مقياساً لأنه محدود الادراك لا يستطيع أن يحيط بمقتضيات الغد وحوادث المستقبل على حسب ما دبره العليم الخبير بخلقه، فماذا بقي اذاً؟ لم يبق إلا الهداية السماوية التي تعهد الله بها عباده والتي فيها المدد الذي علم الله سبحانه أن عباده لا ينتفعون بمدد سواه وهو المدد الذي وضعه أساساً للحياة الانسانية وعلق به عمارة هذه الدنيا. وأكمل وأشرف وأشمل رسالة للهداية هي آخر الشرائع السماوية وهي: الشريعة الإسلامية.
مصدر التشريع وسلطته:
الشريعة الاسلامية هي أكمل وأشرف وأشمل رسالة للهداية وهي الشريعة التي ختم الله بها شرائع السماء وجعلها خالدة، وكتب لها البقاء إلى أن يرث الله الأرض. لذا كانت ثابتة مستمرة قوية البناء محكمة النظام، وافية بحاجة الافراد والجماعات.
ومعلوم أن الشريعة الاسلامية تحتوي على الاصلين العظيمين والمصدرين الكريمين الأول: كتاب الله العظيم وصراطه المستقيم وحجته البالغة، وآياته الدامغة ومنهله العذب الراوي من ظمإ الجهالة.
والثاني: السنة النبوية المنيرة الشاملة لكل خير وسعادة للبشر في دينهم ودنياهم. وهي ما أضيف إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قولاً وفعلاً أو تقريراً. وهي قد رضي الله عنها وأوجب اتباعها والرجوع إليها، والعمل بمقتضاها، وأمر بطاعته صلى الله عليه وآله وسلم وجعل من تولى عن ذلك من الكافرين، وعلق كمال محبة الله بتمام المتابعة لسنته صلى الله عليه وآله وسلم وجعل طاعة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في متابعة سنته طاعة الله سبحانه وتعالى كاتباع قرانه، وبين ان جميع ذلك من الله وأنه لا ينطق عن الهوى بل هو وحي يوحى، فالقرآن من الله والسنة من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأمر الله ورضاه، فحينئذ يصح أن نقول: أن الذي وضع الاحكام وأحل الحلال وحرم الحرام هو الله سبحانه وتعالى.
لقد انتزع الاسلام سلطة التحليل والتحريم من أيدي الخلق أيا كانت درجتهم في الدين والدنيا، وجعلها من حق الرب سبحانه وتعالى وحده لا احبار ولا رهبان ولا ملوك ولا سلاطين يملكون أن يحرموا شيئاً تحريماً مؤبداُ على عباد الله بل الله وحده هو صاحب الحق في أن يُحِلّ ويُحرم في كتابه أو على لسان رسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال الله سبحانه وتعالى: (ان الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه) [يوسف].
وقال: (وقد فصل لكم ما حرم عليكم) [الانعام].
وقال: (إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله) [النساء].
وقال: (اتبعوا ما أنزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلا ما تذكرون) [الأعراف].
وقد اعتبرت الشريعة أن من تجرأ على التحليل والتحريم ولم يحكم بما أنزل الله فقد جاوز حده واعتدى على حق الربوبية في التشريع للخلق وأنه كافر وظالم وفاسق فقال: )ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون) وقال: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون) وقال: (ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون) وأكد ذلك سبحانه وتعالى في موضع آخر بنفي الايمان عمن لم يحكم بكتاب الله وسنة رسوله عند التشاجر في أي أمر فقال تعالى: (فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما) (النساء) وقد أكد تعالى هذا بتكرار أداة النفي والقسم فقال: (فلا وربك لا يؤمنون).
ثم شرط تعالى في هذا التحكيم أن يتقبلوه بسعة صدر وطيب خاطر من غير قلق أو اضطراب فان حصول الحرج والضيق عند ذلك من النفاق ولذا قال: (ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت) وقد أمر الله تعالى بالانقياد انقيادا لا تردد فيه أبدا فقال: (ويسلموا تسليما).
وأمر المؤمن أن لا يكون له اختيار مع حكم الله ورسوله وأنه ان اختار من الأحكام غير ما قضي به الله واختاره فقد ضل ضلالا مبينا. فقال سبحانه: (وما كان لمؤمن ولا مؤمنة اذا قضى الله ورسوله أمراً أن يكون لهم الخيرة من أمرهم ومن يعص الله ورسوله فقد ضل ضلالا مبينا). (الأحزاب)
وقد وصف القرآن الكريم حال المؤمنين المنقادين لأوامر الله ورسوله المذعنين للأحكام الشرعية فقال: (إنما كان قول المؤمنين اذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا وأولئك هم المفلحون، ومن يطع الله ورسوله ويخش الله ويتقه فأولئك هم الفائزون) . (النور)
وقال في وصف ما يقابل المؤمنين وهم المنافقون: (ويقولون آمنا بالله وبالرسول وأطعنا ثم يتولى فريق منهم من بعد ذلك وما أولئك بالمؤمنين واذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم اذا فريق منهم يعرضون. وان يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين. أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله، بل اولئك هم الظالمون). (النور)
أما تحريم الحلال وتحليل الحرام، فذلك أعظم وأشدَ، اذ هو قرين الشرك بالله قال الله تعالى: (ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام لتفتروا على الله الكذب ان الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون). (النحل)
الشريعة الإسلامية وواقع الحياة:
وشريعتنا – بحمد الله – تساير كل عصر وتصلح لكل جيل وتدور مع واقع الحياة. وفي اصولها التشريعية القوة الكاملة التي تمدنا بتشريعات حية نامية متطورة تكفل للناس في مختلف بيئاتهم وعصورهم العدالة والاطمئنان والحياة الكريمة الطيبة.
وقد استطاعت الشريعة أن تقدم الدليل على صلاحيتها وقدرتها عندما أتيح لها أن تطبق في دنيا الواقع، فكانت فترة تطبيقها فترة فاضلة توفرت فيها العدالة الاجتماعية والكرامةالانسانية وارتفعت فيها المثل العليا منارة تضئ لأجيال الانسانية المقبلة سلم الخير والمجد، لقد نعم الناس بالحياة السعيدة وتفرغوا لحمل رسالة تحرير العالم كله من أغلال الظلم وكابوس الجهل وظلمات الضلالة.
وان واقع الأمم الاخرى التي تعمل بأنظمة مغايرة لهذا الدين ليشهد لهذه الشريعة بالسمو والكمال، اذ تضطر هذه الأمم أن تتنازل عن بعض ما في تشريعاتها ونظامها، وأن تستعير من الإسلام أموارا عديدة.
فالشريعة الإسلامية تتسع لكل ما يجد للناس من أقضية وتقوم بتنظيم شؤونهم والوفاء بحاجاتهم مهما تباعدت ديارهم وتباينت اجناسهم واختلفت عاداتهم وطباعهم، ولا يجحد ذلك الا من سفه نفسه.
ولكن لما كانت قضايا الناس ومسائلهم لا تقف عند حد ولا تدخل تحت حصر، كان من الجهل وقصر النظر طلب النص الصريح من القرآن والسنة الذي ينطبق على هذه الأمور المتجددة يوما بعد يوم.
وهنا يتساءل الباحثون عن المسائل التي يمكن لهم فيها النظر والمراجعة والتغيير والتبديل والتي لا يمكن.
ويمكن أن تتضح هذه المسألة ويزول عنها أيّ اشكال اذا علم أن الأحكام في الشريعة الاسلامية من حلال وحرام ترجع إلى قاعدتين عظيمتين