حول الفضاءات والأمكنة (1)

حول الفضاءات والأمكنة (1)
السبت 16 تشرين الثاني (نوفمبر) 2013

:calam: :calam:

في هذا البحث يستعيد باردو منذ البداية الفرق الذي يقيمه المخرج الألماني فيم فيندرز(2) بين الصورة وسياقها. سينما فيندرز تريد إستعادة “غموض الصورة في عُزلتها”، تلك الأمكنة المنفصلة، بعيداً عن أي سياق، أو حكاية أو معنى. السياق أشبه ما يكون بالخفاش الذي يمتص دماء الصورة. الصورة عليها أن تكون مكتفية بذاتها فقط كصورة، أن تفلت و تتملص من قبضة الزمن، لكنها من المستحيل أن لا تجعلنا نعايش حكايا و سياقات خاصة، من قلب عزلتها وتفردها.
فكما يختفي وراء أفعالنا آلاف الدوافع والمشاعر المجهولة فإن كل صورة تُخفي“فضاءً لازمنياً” هو شرطُ إمكانيتها. هناك عدم توافق بين الرؤية (الفضاء) و اللغة (المعنى)، ويسود الاعتقاد أن الفضاءات والأمكنة ثانوية أو بلا معنى، لكنها على العكس من ذلك تولِّد المعنى، وتشكّل امكانياته.
في رواية “الرجوع البطيء” لبيتر هاندكة، يبدأ سورجير وهو عالـِم، رحلته من أوروبا حيث تتوارى كل الفضاءات والأمكنة وراء الرموز والأشكال، إلى أمريكا حيث كان لايزال يسود الاعتقاد بــ “قوى غير إنسانية و فوق تاريخية”، ليكتشف أن الفضاءات تمثل “إمكانية معنى” تفيضُ عن اللغة، فسورجير الأوروبي الذي عاش في شمال القارة الأمريكية ، كان يمرّ بخبرات بصرية وحسيّة لم يستطع التعبير عنها بلغته التي تلقنها في أوروبا، فهو كالذي يتأمل منظراً تغيب عنه “الأنا”: (أعين بلا وعي، حساسيّة بلا إدراك)، فاللغة خدعة و الخطاب عاجز أمام الفضاءات غير الـمـُعاشَة. تعجز اللغة عندما يتسع الفضاء، هناك يغيب التاريخ البشري وتفقد اللغة قدرتها على الفهم.
تتقاسم الشخصيات في كلّ روايات هاندكة البطولة مع الأمكنة ،كالبيت الذي تعيش به، أو الشوارع التي تمر بها أو دور السينما التي ترتادها أو طرق الغابة التي تتردد عليها، إنه دوماً “حضور المكان” ليشارك في تأسيس المعنى... و في كلّ أعماله يبرز التناقض بين المكان (الصورة) والمعنى (التاريخ)، وحتى نستطيع الدخول إلى تلك الأمكنة علينا أن نتموضع خارج الوعي، وخارج التفكير، وخارج الذات وخارج الزمن...
هذه هي مهمة الفنان: إظهار أي عنصر يومي كالشارع أو المنزل أو التفاحة كأنها “الأولى”، فالشارع هو أول الشوارع و المنزل هو أول المنازل والتفاحة هي أول التفاحات. لأجل ذلك يجب تقديمها كـ“خارج المعنى” أو كـ “معنى مفقود”، هناك تصمت اللغة. الرسام يتطلع إلى تعيين هذا البعد الخارجي أو المرة الأولى،و يصبو إلى ذلك اللقاء خارج الزمن.
أيضا هي مهمة الفيلسوف، تعيين الفضاءات التي تجعل المعنى ممكناً.فميشيل فوكو في “المراقبة والمعاقبة”، يقدم لنا نموذجان: من جهة هناك حكم الإعدام على فرانسوا ديمي الذي حاول اغتيال لويس الخامس عشر عام 1757، ومن جهة أخرى مخطط لسجن الشباب في باريس عام 1838و الذي أعلنه ليون فاشير.الفضاء الأول يمثل العقوبة الملكية الوحشية و العلنية في الساحة العامة، أما الآخر فيمثل العقوبة التأديبية التي غيرت إستراتيجيات العقاب و وضعت التعذيب في مستوى غير مرئي وأعطت سلطة كبيرة للسجانين و الأطباء النفسيين، بين الحالتين تغير وجه الحضارة الأوروبية.انهما فضاءان مختلفان لا بل متناقضان. وعلى الفيلسوف أن يَخُطَّ جينيالوجياهذه الفضاءات.
أما عند بول سيزان. فليس من المفروض أن نقلد بحرَفيّة عالية التفاحة بل أن ننتشلها من الزمن و نجردها منه، أن تظهر التفاحة كوجودمحض، في“أزليّة حياتها” كما يقول شيلنغ (علاقة الفنون التصويرية بالطبيعة).

نجد أنفسنا أمام نفس التناقض الذي تكلم عنه هايدجر في “أصل العمل الفني”، فموضوع الخبرة الجمالية يصبح كذلك فقط عندما يقوم الفنان أو المُلاحِظ بالنظر إليه بطريقة خاصة، معتبراً أنه أكثر أهميّةً مما يبدو عليه للوهلة الأولى ، وحذاء القروي الذي رسمه فان كوخ ليس حذاءً وحسب، بل هو “تجسيد لسلوك القروي، ولأرضه، و لفضائه”.و كما أن النحات و عامل البناء يستعملان الحجر ،الا أن الفرق هو أن النحات لا يستنفذ الحجر. كذلك الرسام لا يستنفذ اللون والشاعر لا يستنفذ الكلمة.
بالنسبة لباردو، فإن هذا الهدف الفني يتلاقى مع النوع الثالث من المعرفة عند سبينوزا أي تأمل الأشياء من منظور الأزلية.سبينوزا يقدم الأساس الفلسفي الذي يجعل من الممكن المقاربة الجمالية لسيزان:
الأزلية هي من تجد نفسها مطبوعة و مُتَضَمَنة في الزمن . والمتناهي هو تركيب من اللامتناهيات و ليس العكس.في كل لحظة و في كل وجود و في كل حاضر(حضور)، يتواجد الماضي(الغياب) الذي يتجاوز عملية التمثيل. المشكلة دوماً هي كيف نعبر عن ما هو مطبوع، كيف نشرح ما هو مُتَضَمَن، كيف نقول ما لايقال؟
عندما يؤكد سبينوزا أن “مشاعر الجسد و أفكار العقل هي شيء واحد” فإنه يعني أن “كلّ صورة تأتي من الإنطباع الحسي تحمل معها واقعاً محضاً”.لكن هذا الواقع غير مرئي بالعين، بل فقط قابل للإختراق عبر الفهم. و هناك ، حيث يرى الجميع تاريخاً و حكايا يرى سبينوزا “تباينات مكثفة للوجود”، و حيث يرى الجميع تفاحاً فإن سيزان يرى ما هو قابل لأن يُرسم في التفاح.

الهوامش:
(1) عمل بحثي لخوسيه لويس باردو ، حيث يخط علاقة اتصال بين رواية الرجوع البطيئ لـ بيتر هاندكة و لوحات بول سيزان و فلسفة سبينوزا.

موضوع مميز ورائع

يسلمو حبيبي ... حبيبتي على طرحك

دائما محط اعجاب وتقدير

لك مني كل الاحترام والتقدير

موضوع في قمة الخيااال
طرحت فابدعت
دمت ودام عطائك
ودائما بأنتظار جديدك الشيق
لك خالص حبي وأشواقي

اسعد الله قلوبكم وامتعها بالخير دوماً
أسعدني كثيرا مروركم وتعطيركم هذه الصفحه
وردكم المفعم بالحب والعطاء
دمتم بخيروعافية

ماأجمل تلك المشاعر التي
خطها لنا قلمكِ الجميل هنا
لقد كتبتِ وابدعتِ
كم كانت كلماتكِ رائعه في معانيها
فكم استمتعت بموضوعك الجميل
بين سحر حروفكِ التي
ليس لها مثيل

دمت بألف خير

اسعد الله قلوبكم وامتعها
بالخير دوماً

أسعدني كثيرا مروركم وتعطيركم هذه الصفحه

وردكم المفعم بالحب والعطاء

دمتم بخير وعافية

لكم خالص احترامي